أخبار وطنية أستاذة علم الاجتماع فتحية السعيدي تقدم قراءة نقدية لما حصل مع المفكر محمد الطالبي
قدمت أستاذة علم الاجتماع فتحية السعيدي قراءة لطريقة التعامل الإعلامي "الفرجوي أو إعلام الشو" التي إنتهجت مع المفكر والمؤرخ الدكتور محمد الطالبي معتبرة أنه ما هكذا نناقش مواضيع إشكالية تتطلّب الانتباه والدقة والحجاج، وما هكذا يمكننا أن نستفيد ونخلق جدلا عموما سليما نحتاجه في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر، وما هكذا نعامل أهل الفكر والرأي. وقالت الأستاذة السعيدي إنّ المجتمع الذي لا يحترم مفكّريه ومثقفيه مجتمع آيل لمزيد من السقوط. وجاءت قراءتها كالآتي:
"أحتفي اليوم باليوم العالمي لحقوق النساء، وهو يوم، ذو رمزية تاريخية كبيرة بالنسبة لكافة النساء في أرجاء المعمورة. ونظرا لطبيعته تلك، ارتأيت أن يكون احتفائي به، احتفاء يحمل بذور تفكّر وتفكير بظواهر كثيرة تحيطنا جميعا، ولكن سأكتفي في هذا النص بالتفكير في ظاهرة الإعلامي الفرجوي أو إعلام الشو Showوفي علاقة هذا الإعلام بالفعل المواطني والديمقراطي... موضوع كهذا عميق ويتطلّب دراسات وبحوث لمزيد التمحيص والتفكيك، ولكن هذا العائق المعرفي لا يمنع من التفكير ومن إبداء الرأي حول عدد من البرامج التلفزيونية الكثيرة المثيرة للجدل حينا وللاستنكار حينا آخر وللقبول وللرفض شكلا ومضمونا...
أثارت قناة الحوار التونسي جدلا واسعا على خلفية دعوتها للمفكر والمؤرخ الدكتور محمد الطالبي الذي نفى أن يكون القرآن قد حرّم بنص صريح الخمر... إنه موضوع جريء في زمن تنامي الفكر السلفي والوهابي في المنطقة العربية، وهو موضوع إشكالي في بنية الفكر العربي الإسلامي الذي تعوّد على مجموعة من المسلمات السلوكية والأخلاقية دون مناقشتها ووضعها تحت مجهر العقل والتفكير.
وعليه، مهم جدا أن يتناول الإعلام طرح هذه الإشكاليات وتحليلها، فالإعلام صانع للرأي وموجّه للتصوّرات والتمثلات الاجتماعية ومؤسس للفعل الديمقراطي، ولكن لا يتمّ ذلك إلاّ بناء على رؤية للمجتمع ووفق سياسة إعلامية لها ضوابطها الإيتيقية وأهدافها الديونطولوجية والمجتمعية معا، من ذلك، أن التناول الإعلامي لمثل هذه المواضيع يتعارض مع الإعلام الفرجوي Buzz الذي يسعى ليس لإنارة الرأي العام وإنما لإثارته وتأجيجه لغاية تجارية بحتة تتمثل في رفع نسبة المشاهدة L’audimat...
ولئن كانت سمة التفكير، الهدوء والحجاج والنقد والمنطق، فإن أحد موجهات إعلام Buzz تتمثل في خلق الفرجة، وتمييع الجدل، فيصل في مرات كثيرة إلى تحريك النوازع العدوانية والانفعال والتشويش على الفكر... هذا جانب وفي جانب آخر، إن التعبير عمّا يناقض المعتاد يثير ردة الفعل ويصل إلى ممارسة العنف، وعلى سبيل المثال، لما اكتشف غاليلي بأن الأرض تدور حول نفسها، واعلن هذه الحقيقة العلمية التي تتناقض مع ما تعوّدت الكنيسة على تسويقه، كان أن صلب، وجميع العالمين يذكرون قولته الشهيرة وهو يُقتاد لتنفيذ حكم الإعدام فيه: Et pourtant, elle tourne...
اليوم، ومع سد باب الاجتهاد منذ عقود وبعد ظهور ظواهر صوتية كثيرة تقتات من الدين ومن توجيهاته المتعددة، فإنّ ما يناقض المعتاد والمترسخ اجتماعيا عبر عملية التنشئة سيثير حتما الجدل والسخط وسيُرمى كل مجدّد للتفكير بالزندقة وهو ما حصل مع الدكتور الطالبي الذي حرّك السواكن وأثار الجدل وأعاد إلى سطح التفكير مسألة من مسائل الحياة والدين لتكون محلّ جدل عمومي، وهو في هذا، يثبت مرّة أخرى بأنه مناضل فكر ومؤمن بالجدل العمومي وبضرورة خلق الرأي العام حول مشكل أو إشكالية معيّنة، كأساس متين للفعل الديمقراطي.
فإلى أي مدى كان صحفيي قناة الحوار التونسي خلال البرنامجين الذين تمّ بثهما قادرين على إدارة حوار فكري دقيق، يمسّ رواسب مجتمعية تمّ تداولها وتناقلها عبر أجيال؟ وهل كان لجميعهم (نوفل الورتاني ثم إلياس الغربي ومحمد بوغلاب) رؤية واضحة واطلاع كاف على الجدل الفقهي، أم أن تناولهم لهذا الموضوع كان وسيلة لإثارة "الهرج" وكسب مزيدا من نسب المشاهدة بمعزل عمّا يصل للمتلقي؟
أسئلة كثيرة تطرح حول طريقة الإعداد: اختيار الضيوف، الأسئلة الموجهة للدكتور الطالبي، الحضور الفيزيقي للمنشطين والعلامات والارتسامات على وجهوهم والتي لم تستطع الكاميرا إخفائها... وهي رسائل تفيد بما لا يدع للشك مكان، بأن طرق الموضوع لم يكن جديا بل تمّ تقديمه من باب الهزل والإثارة لا غير...
وللتذكير، كل علماء الاتصال وعلماء علم النفس الاجتماعي يؤكدون بأن 10% فقط من الرسالة الشفهية يصل للمتقبل/ أو المستقبل و90% يصل عبر علامات الوجه/ مثلث التواصل. فلئن كانت ملامح الأستاذ الدكتور الطالبي ترسل علامات جدية وثقة بالنفس فإن ملامح الصحفيين كانت توحي بعدم الجدية سواء قولا مثلما فعل نوفل الورتاني أو عن طريق الابتسامة الخفيفة والمواربة لإلياس الغربي ومحمد غلاّب الذي حاور زميله بالعينين أكثر من مرّة، وحاول قطع كلام الأستاذ في محاولة لإثارته وخلق وضع إشكالي يلغي من خلاله الرتابة ونسق الحديث المسترسل للدكتور الطالبي، أما الضيف حسن الغضباني فملامحه جميعها توحي بالاستعداد للانقضاء على فريسة، فكان متحفزا وظاهرة صوتية بأتم معنى الكلمة..
ما هكذا نناقش مواضيع إشكالية تتطلّب الانتباه والدقة والحجاج؟ وما هكذا يمكننا أن نستفيد ونخلق جدلا عموما سليما نحتاجه في هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر؟ وما هكذا نعامل أهل الفكر والرأي؟ فالأسلوب الذي اعتمد في النقاش خلال البرنامج الذي نشطه نوفل الورتاني، وبدرجة أقل في البرنامج الذي نشطه إلياس الغربي، أسلوب تبسيطي وتهريجي يمكن أن تكون عواقبه عكسية على المفكر الطالبي الذي تمّ تكفيره ونعته بالجنون دون احترام لا لسنه ولا لعلمه... فما الذي ترغب برامج مثل هذه في تسويقه. إن المجتمع الذي لا يحترم مفكّريه ومثقفيه مجتمع آيل لمزيد من السقوط.
ملاجظة: لقد ذكّرني الأستاذ الطالبي بما خاضتها المصلحة نظيرة زين الدين التي كتبت كتابا سنة 1928 حول السفور والحجاب وبينت من داخل النص الديني بأن الحجاب بِدعة من بعض المفسرين للنص الديني، فلا شيء يدل لا شكله ولا اعتبار المرأة غير المحجبة امرأة لم تقم بأحد فرائض الإسلام المنصوص عليها في القرآن وفي السنة، فكان أن هاجمها الشيوخ فردت عليهم بكتاب ثان سنة 1929 أسمته الفتاة والشيوخ أي الفتاة في مواجهة الشيوخ... كتب نظيرة زين الدين تمّ إتلافها ولم تنجو سوى بعض النسخ التي وجدت فيما بعد، في أحد الجامعات المسيحية اللبنانية. وهي بذلك تذكرني بما حدث للعلامة ابن رشد الذي حرقت كتبه وتمّ إنقاذ البعض منها لتصل الينا اليوم.... للأفكار أجنحة كما يقول يوسف شاهين... فلا يمكن منع الأفكار من الرواج والتداول مهما انغلق المجتمع".